فصل: تفسير الآية رقم (229):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (229):

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْمَرَّتَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُنْحَصِرَ فِي الْمَرَّتَيْنِ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ لَا مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهَا الْمُرَاجَعَةُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الْآيَةَ [2/ 230]، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [2/ 229] يَعْنِي بِهِ عَدَمَ الرَّجْعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَنْبِيهٌ:
ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يُؤْخَذُ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ الْمُرَادَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُوَ مَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [2/ 229] عَلِمْنَا أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَإِذَا جَازَ جَمْعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ دَفْعَةً، جَازَ جَمْعُ الثَّلَاثِ، وَرَدَّ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ، وَجَعَلَ الْآيَةَ دَلِيلًا لِنَقِيضِ ذَلِكَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ غَيْرُ نَاهِضٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الطَّلَاقِ كُلَّهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فِي إِحْدَى التَّطْلِيقَتَيِنِ كَمَا ذَكَرَ، بَلِ الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ هُوَ خُصُوصُ الطَّلَاقِ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ الدَّلِيلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْآيَةِ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا يُنَافِي أَنْ تَقُومَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ، وَسَنَذْكُرُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَأَدِلَّةَ مَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ إِيضَاحِ خُلَاصَةِ الْبَحْثِ كُلِّهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِيضَاحًا تَامًّا.
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ لِعَانِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَزَوْجِهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ: فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْهُ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ: أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَدَّ الْمُخَالِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ بِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَلَمْ يُصَادِفْ تَطْلِيقَهُ الثَّلَاثَ مَحَلًّا، وَرَدَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ؛ بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً، فَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَأَنْكَرَهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَبِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَتَقَعُ عِنْدَ فَرَاغِ الزَّوْجِ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَا إِلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ؛ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا، وَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِنَّهُ قَالَ: لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَرَوَاهُ بَاقِي الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: إِنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ خَطَأٌ، يَعْنِي فِي خُصُوصِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ، لَا مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَرَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنْ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ، وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِطْلَاقَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِخُصُوصِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ اهـ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ: فَكَانَتْ سُنَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ؟ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةً.
قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ، أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَبِهَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ الْبُخَارِيِّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ؛ لِأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَى غَوَامِضِ إِشَارَاتِ الْبُخَارِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّابِتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مُطَابِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ، وَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ، فَتَصْرِيحُ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً يَبْطُلُ بِإِيضَاحٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِسُكُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ كَمَا تَرَى.
وَذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الزَّوْجُ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَيْسَ أَمْرًا قَطْعِيًّا، حَتَّى تَرِدَ بِهِ دَلَالَةُ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَضَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا.
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ لِلْمُلَاعَنَةِ بِعَدَمِ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَأَرَاهُ اجْتِهَادَهُ أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى هِيَ الْبَيْنُونَةُ بِمَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا.
فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ.
وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَصَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهَا: السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ. فَقَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: السُّنَّةُ بِيَدِ فَاطِمَةَ قَطْعًا، وَأَيْضًا تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا إِذَا لَقِينَاهُ، أَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا حُقِّقَتْ أَنَّ السُّنَّةَ مَعَهَا وَأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ قَوْلَ عُمَرَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ، قَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [65/ 1]، حَتَّى قَالَ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [65/ 1]. فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. فَتَحَصَّلَ أَنَّ السُّنَّةَ بِيَدِهَا وَكِتَابَ اللَّهِ مَعَهَا.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ هُوَ أَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ وَأَصْوَبُهَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي نَفَقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُمَا مَعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا يَرُدُّ تَعْلِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَأَيْضًا فَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَهَذَا الصَّحَابِيُّ حَفِظَ إِنْفَاذَ الثَّلَاثِ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْفَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً مِنَ الْمُلَاعِنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَجِبُ فِيهِ الْفُرْقَةُ الْأَبَدِيَّةُ. فَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ مِنْ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ، وَقَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!» كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ فِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ الرُّؤْيَةِ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا الْإِعْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ، وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْمَذْكُورُ جُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ.
وَالْإِعْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ رِوَايَةَ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ فِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي صَحِيحِهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ إِلَّا بِمُوجِبٍ صَرِيحٍ يَقْتَضِي الرَّدَّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ يَرُدُّهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِذْهَا، وَحَدِيثُ سَهْلٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَنْفَذَهَا، وَالْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ بَلْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتَجَّ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، بِحَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا.
وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا يَظُنُّ لُزُومَهَا، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ لِبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَخْرَجَ حَدِيثَ سَهْلٍ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِإِنْفَاذِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ اللِّعَانَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٌ، وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الِاحْتِجَاجِ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا دَلِيلَ فِيهِ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ دَفْعَةً لَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ دَفْعَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَامْرَأَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ: فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهَا فَبَتَّ طَلَاقِي ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ نَاهِضٍ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا: فَبَتَّ طَلَاقِي؛ أَيْ: بِحُصُولِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ.
وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهَا قَالَتْ: طَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهَا فَبَتَّ طَلَاقِي، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثًا ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَةً، وَاعْتَرَضَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ رِفَاعَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ مُفَرَّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ، وَرَدَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ غَيْرَ رِفَاعَةَ قَدْ وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرِفَاعَةَ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجْرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ رِفَاعَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْوَاضِحُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَرِفَاعَةَ النَّضْرِيِّ وَقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلَاقٌ، فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنْهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَالْحُكْمُ فِي قِصَّتِهِمَا مُتَّحِدٌ مَعَ تَغَايُرِ الْأَشْخَاصِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَهُمَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ هُوَ رَفَاعَةُ بْنُ وَهْبٍ. اهـ، مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ مُغْضَبًا، فَقَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!» وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ: أَنَّ الْمُطَلِّقَ يَظُنُّ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ وَاقِعَةً، فَلَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا: إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ، وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، فَإِنْ قِيلَ: غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ لِلطَّلَقَاتِ لَعِبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وَفِي رِوَايَةِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْنُوعًا ابْتِدَاءً لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ: وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِهِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ» وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْقَعَهَا دَفْعَةً: «إِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ».
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُنَاسِبُ لِمُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ التَّشْدِيدُ لَا التَّخْفِيفُ بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إِنَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: «لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ» وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَيْسَ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْكَ غَيْرُهُ، وَقَالَ شُعْبَةُ: كَانَ نَسِيًّا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، يُخْطِئُ وَلَا يَدْرِي، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَأَيْضًا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَعْنِي قَوْلَهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا» إِلَخْ، مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءٌ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ شَارَكَهُ الْحُفَّاظُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ. وَفِي إِسْنَادِهَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، بِأَنَّ فِي إِسِنَادِهِ مُعَلَّى بْنَ مَنْصُورٍ، وَقَالَ: رَمَاهُ أَحْمَدُ بِالْكَذِبِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ الْمَذْكُورُ فَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَأَمَّا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: ثِقَةٌ سُنِّيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ، أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ رَمَاهُ بِالْكَذِبِ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ. وَأَمَّا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَبُو شَيْبَةَ الشَّامِيِّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مَرْدُودَ الْحَدِيثِ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اعْتَضَدَتْ رِوَايَتُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَإِنَّهُ قَالَ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارِ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَتْ: لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ، قَالَ: بِقَتْلِ عَلِيٍّ تُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ، اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، يَعْنِي ثَلَاثًا قَالَ: فَتَلَفَّعَتْ بِثِيَابِهَا، وَقَعَدَتْ حَتَّى قَضَتْ عِدَّتَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِبَقِيَّةٍ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَعَشَرَةِ آلَافٍ صَدَقَةً، فَلَمَّا جَاءَهَا الرَّسُولُ قَالَتْ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ جَدِّي أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ أَوْ ثَلَاثًا مُبْهَمَةً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لَرَاجَعْتُهَا.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَضِعْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ بِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّازِيَّ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: حَافِظٌ ضَعِيفٌ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا سَلَمَةَ بْنَ الْفَضْلِ الْأَبْرَشَ، مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَاضِي الرَّيِّ قَالَ فِيهِ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ إِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ. وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَعَلَى ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ بِنَاءً عَلَى حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً لَا مُجْتَمِعَةً، فَهُوَ بَعِيدٌ. وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ عَنِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلَيْسَ مَحَلُّ نِزَاعٍ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: طَلَّقَ جَدِّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اتَّقَى اللَّهَ جَدُّكَ، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ، وَأَمَّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ» وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ، قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوِّجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، فَأَخَافُ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ.
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَخْ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ.
قَالُوا: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بِالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَلَا سِيَّمَا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ؛ لِقَوْلِهَا فِيهِ: فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِإِجَازَتِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ، وَرَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا: أَنَّ فَاطِمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ.
فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَتُظْهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُفَرَّقًا لَا دَفْعَةً، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بَيْنَ صِيَغِ الْبَيْنُونَةِ الثَّلَاثِ، يَعْنُونَ لَفْظَ الْبَتَّةَ وَالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَالثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ؛ لِتَعْبِيرِهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ: طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظٍ: فَطَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. فَلَمْ تَخُصَّ لَفْظًا مِنْهَا عَنْ لَفْظٍ؛ لِعِلْمِهَا بِتَسَاوِي الصِّيَغِ.
وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْرُمُ لَاحْتَرَزَتْ مِنْهُ.
قَالُوا: وَالشَّعْبِيُّ قَالَ لَهَا: حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ، أَيْ: عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَحَالِهِ. فَكَيْفَ يَسْأَلُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَيَقْبَلُ الْجَوَابَ بِمَا فِيهِ عِنْدَهُ إِجْمَالٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْهُ، وَأَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْهَا الصِّيَغَ الثَّلَاثَ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ لَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَتَثَبَّتَ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْهَا بِأَيِّ الصِّيَغِ وَقَعَتْ بَيْنُونَتُهَا، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟» فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ: مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ، فَهُوَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ مَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ إِلَّا وَاحِدَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدَةِ لَوَقَعَ، وَالثَّلَاثُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَتَّةَ كِنَايَةٌ وَالثَّلَاثَ صَرِيحٌ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى مَعَ اعْتِضَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَكَلَّمَ فِيهِ: بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيَّ.
قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ.
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ. يُقَالُ ثَلَاثًا، وَتَارَةً قِيلَ وَاحِدَةً. وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّ الثَّلَاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا تَصْحِيحَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ لَهُ، وَأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ، وَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرِكَ بِيَدِكَ إِنَّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ- مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ. فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: نَسِيَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا، وَقَالَ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، وَجَلَالَتُهُمَا مَعْرُوفَةٌ.
قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: [الرَّجَزُ]:
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ** مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ

الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَثِيرًا نَسِيَهُ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْخِ لَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقِلُّ رَاوٍ يَحْفَظُ طُولَ الزَّمَانِ مَا يَرْوِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَدْ رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَسِيَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ]:
وَإِنْ يُرِدْهُ بِلَا أَذْكُرُ أَوْ ** مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا

الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ ** وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمُ

كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ ** نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أَخَذْ

عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعِهِ ** عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهُ

الثَّالِثَةُ: تَضْعِيفُهُ بِكَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ مَجْهُولٌ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: إِنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ، وَقَالَ: «أَتَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا؟ أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا، أَوْ لَعِبًا؟ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» وَفِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا مُعَاذُ مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِدَعَتَهُ» وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الذَّارِعُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ فَإِنَّ كَثْرَتَهَا وَاخْتِلَافَ طُرُقِهَا، وَتَبَايُنَ مَخَارِجِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَالضِّعَافُ الْمُعْتَبَرُ بِهَا إِذَا تَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا شَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَلَحَ مَجْمُوعَهَا لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَحَدِيثِ طَلَاقِ رُكَانَةَ الْبَتَّةَ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ إِنْفَاذِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ عُوَيْمِرٍ ثَلَاثًا،
مَجْمُوعَةً عِنْدٍ أَبِي دَاوُدَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مُعَارَضَةَ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ جِهَةِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ، وَشُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ: [الْخَفِيفِ]:
لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ** فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [65/ 1].
قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكَهُ؛ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ هَذَا إِلَّا رَجْعِيًّا، فَلَا يَنْدَمُ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْقُرْآنِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [65/ 2] وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ. وَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَابَعَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَجْمَعِ الطَّلَاقَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جَمَعَ الطَّلَقَاتِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ؛ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا مُجْتَمِعَةً، هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ، الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ. وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ؛ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ: طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا»؟ قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» فَارْتَجَعَهَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ، لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَلَا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ أَنَّ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ وَاقِعَةٌ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى؛ إِذْ لَمْ يَدُلَّ كَوْنُهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عَلَى كَوْنِهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بِنَقْلٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا لُغَةٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، بَلِ الْحَدِيثُ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَجْلِسِ؛ إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَرْكِ الْأَخَصِّ وَالتَّعْبِيرِ بِالْأَعَمِّ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا تَرَى.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، فَيُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَافْهَمْ. وَسَتَرَى تَمَامَ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
الثَّانِي: أَنَّ دَاوُدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الَّذِي هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي عِكْرِمَةَ، وَرُمِيَ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ اهـ. وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ كَانَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ ثِقَةٍ. مَعَ أَنَّهُ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ.
الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: الثَّالِثُ: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ، فَقَالَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الْمَذْكُورِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً: هُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، مِنْ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ ثَلَاثًا، فَاحْتُسِبَ بِوَاحِدَةٍ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً فِي الْحَيْضِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَانَ تَطْلِيقُهُ إِيَّاهَا فِي الْحَيْضِ وَاحِدَةً غَيْرَ أَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَلَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَجَابِرٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً.
وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ. اه مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ: هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ أُمَّ رُكَانَةَ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ- لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا- فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةٌ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ؟ وَفُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْهَا» فَفَعَلَ، فَقَالَ: «رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ» فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا وَتَلَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [65/ 1].
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، فَسُقُوطُهَا كَمَا تَرَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ هَذَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي ضَعْفِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْلَفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ.
وَقَالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ- يَعْنِي عُمَرَ- قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ، وَلِلْجُمْهُورِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَفْظُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَطَلَاقُهُ هَذَا طَلَاقُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ إِيقَاعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ كَوْنَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَهَلْ فِي لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ وَهَلْ يَمْنَعُ إِطْلَاقُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عَلَى الطَّلَاقِ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا. يُقَالُ لَهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَقَالَ: يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهُوَ أَشَدُّ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، قِيلَ لَهُ: وَإِذَنْ فَجَزْمُكَ بِكَوْنِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَوْنُهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَعِلْمِهِ وَشِدَّةِ فَهْمِهِ مَا فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِيهِ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلِذَا تَرْجَمَ فِي سُنَنِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ قَالَ: حَدَّثْنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إِلَى الْوَاحِدَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَرَى هَذَا الْإِمَامَ الْجَلِيلَ صَرَّحَ بِأَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ النَّسَائِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنَ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ. الْحَدِيثَ. فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ: وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ: ثَلَاثًا، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِصِحَّةِ مَا فَهِمَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنَ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا طَلَقَاتٌ ثَلَاثٌ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ، الثَّلَاثُ الْمُفَرَّقَةُ بِأَلْفَاظٍ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، ابْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي تَكْرِيرِ اللَّفْظِ، كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَكَانُوا أَوَّلًا عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّأْكِيدَ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْخِدَاعُ وَنَحْوُهُ؛ مِمَّا يَمْنَعُ قَبُولُ مَنِ ادَّعَى التَّأْكِيدَ حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِ التَّكْرَارِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٌ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَابِهِ وَتَأْوِيلِهِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَنْوِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ طَلْقَةٍ؛ لِقِلَّةِ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِئْنَافَ بِذَلِكَ، فَحَمَلَ عَلَى الْغَالِبِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ. فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَغَلَبَ مِنْهُمْ إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ بِهَا، حُمِلَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ؛ عَمَلًا بِالْغَالِبِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْحَالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ «الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ لِهَذَا كَمَا قَدَّمْنَا.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَادِّعَاءُ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ادِّعَاءٌ خَالٍ مِنْ دَلِيلٍ كَمَا رَأَيْتَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى عَزْوِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ كَمَا تَرَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَيَدُلُّ لِكَوْنِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ: طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟» قَالَ: ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْمَجْلِسِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَجْلِسِ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِذِكْرِ الْوَصْفِ الْأَعَمِّ وَتَرْكِ الْأَخَصِّ بِلَا مُوجِبٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ الثَّانِي عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ ثَلَاثًا كَانَ يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلَاثَ أَصْلًا، أَوْ يَسْتَعْمِلُونَهَا نَادِرًا. وَأَمَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا كَانَ يُصْنَعُ قَبْلَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ. وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي إِنَّمَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلَاثًا، كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَقَعَ عَنِ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ خَاصَّةً، لَا عَنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [2/ 229] عَنِ الْمُحَقِّقِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالْكِيَا الطَّبَرِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى النَّسْخِ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى فِي بَابِ مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً؛ يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالَّذِي يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ الشَّيْخُ: وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يُخَالِفُ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خِلَافُهُ؟ اهـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: الْجَوَابُ الثَّالِثُ دَعْوَى النَّسْخِ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي ذَكَرَ تَحْتَهَا أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ هِيَ قَوْلُهُ: بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الْآيَةَ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ آنِفًا مَا نَصُّهُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُ حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا وَقَالَ: هَذَا أَصَحُّ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أَيِّمًا، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَوَقَّتَ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ وَاخْتَارَ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. اهـ. مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَإِنْكَارُ الْمَازِرِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ادِّعَاءَ النَّسْخِ مَرْدُودٌ بِمَا رَدَّهُ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ عَنِ الْمَازَرِيِّ إِنْكَارَهُ لِلنَّسْخِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ بَعْدَهُ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ: أَحُدُهَا: أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نُسِخَ؛ أَيِ: اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَازَرِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ.
الثَّانِي: إِنْكَارُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الظَّاهِرِ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلَافَ الظَّاهِرِ حَتْمًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَغْلِيطَهُ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِهِ انْتِشَارُهُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ. اهـ. مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي بِلَفْظِهِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ اطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَلَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ.
وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ الْحَدِيثَ، حَتَّى طَلَبَا مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ الْمَذْكُورِ وُقُوعُ مِثْلِهِ، وَاعْتِرَافُ الْمُخَالِفِ بِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ مُتْعَةَ النِّسَاءِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَهَذَا مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ طِبْقًا مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ: [الطَّوِيلُ]:
فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ** أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا

فَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يُسَلِّمَ مُنْصِفٌ إِمْكَانَ النَّسْخِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ فِي الْأُخْرَى، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِيهَا عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ: أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ ثُمَّ غَيَّرَهُ عُمَرُ.
وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَأَحَالَ نَسْخَ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، يُقَالُ لَهُ: مَا لِبَائِكَ تَجُرُّ وَبَائِي لَا تَجُرُّ؟ فَإِنْ قِيلَ: نِكَاحُ الْمُتْعَةِ صَحَّ النَّصُّ بِنَسْخِهِ قُلْنَا: قَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِنَسْخِ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وَرَأَى أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ يَرْتَجِعُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَأَكْثَرَ، قَالَ فِي سُنَنِهِ: بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الْآيَةَ [2/ 228] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ يَهِمُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا آوِيكِ وَلَا أُطَلِّقُكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، وَوَرَعِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ: أَنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ صَحَّ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَخَلْقٍ لَا يُحْصَى.
وَالنَّاسِخُ الَّذِي نَسَخَ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يَجْهَلَ مِثْلَ هَذَا النَّاسِخِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِنَسْخِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَمَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [23/ 5، 6] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا سُرِّيَّةٍ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الْآيَةَ [4/ 24] وَالَّذِينَ قَالُوا: بِالنَّسْخِ قَالُوا: فِي مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ: إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنَاةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَنَّوْنَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يُوقِعُونَ الثَّلَاثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَمَعْنَى اسْتِعْجَالِهِمْ أَنَّهُمْ صَارُوا يُوقِعُونَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَاهُ، وَإِمْضَاؤُهُ لَهُ عَلَيْهِمْ إِذَنْ هُوَ اللَّازِمُ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي أَلْزَمْنَاهُمْ بِمُقْتَضَى مَا قَالُوا، وَنَظِيرُهُ: قَوْلُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ: فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ. فَظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْ عُمَرَ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِيهِمَا مَعًا كَمَا رَأَيْتَ، وَلَيْسَتِ الْأَنَاةُ فِي الْمَنْسُوخِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَالظَّاهِرُ فِي إِمْضَائِهِ لَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَغَيَّرَ قَصْدُهُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ إِلَى التَّأْسِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا كَوْنُ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً، فَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهَا ثَلَاثًا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- أَنَّ رِوَايَةَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِمُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ قَالَ: بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذَا إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ وَسَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِ الَّذِي تَدَارَكَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا كَادَ تَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُ، وَتُغَيَّرُ عَقَائِدُهُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ لِلْأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ: إِنَّهُ رَفَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَصْدًا؛ لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ هُوَ، ذَكَرَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْحَدِيثَ عَمْدًا؛ لِذَلِكَ الْمُوجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مَا تَرَكَاهُ إِلَّا لِمُوجِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: رِوَايَةُ طَاوُسٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِالْمَوْقُوفِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا خَالَفَ مَا رُوِيَ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ رَاوِيهِ وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ عَدْلٌ عَارِفٌ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِقَوْلِهِ. فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَرِيحَةَ الْمَعْنَى، أَوْ ظَاهِرَةً فِيهِ ظُهُورًا يَضْعُفُ مَعَهُ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى احْتِمَالًا قَوِيًّا فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي تُرِكَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا رَوَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا لِأَنْ تَكُونَ الطَّلَقَاتُ مُفَرَّقَةً، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَعْلِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ لَيْسَ كَوْنَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا سَتَرَى بَيَانَهُ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْجَوَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ نَفْسُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ لَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُرَجَّحُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادٍ بِمُوَافَقَةِ الْحُفَّاظِ لِإِسْمَاعِيلَ، فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا لَا وَاحِدَةً.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ ادِّعَاءُ ضَعْفِهِ وَمِمَّنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقُرْطُبِيُّ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ: زَلَّ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالُوا: إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ لَا يَلْزَمُ، وَجَعَلُوهُ وَاحِدَةً وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّلَفِ الْأَوَّلِ فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَزَوْهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ الضَّعِيفِ الْمَنْزِلَةِ، الْمَغْمُورِ الْمَرْتَبَةِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَغَوَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسَائِلِ فَتَتَبَّعُوا الْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةَ فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَحْلِفُ ثَلَاثًا كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً.
وَلَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ، وَلَقِيتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ كُلَّ صَادِقٍ، فَمَا سَمِعْتُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخَبَرٍ، وَلَا أَحْسَسْتُ لَهَا بِأَثَرٍ، إِلَّا الشِّيعَةَ الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزًا، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ سُكَّرَةَ الْهَاشِمِيُّ: [السريع]:
يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَةَ فِي دِينِهِ ** حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْرٍ

وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً ** تُبِينُ مِنْهُ رَبَّةُ الْخِدْرِ

مِنْ هَاهُنَا طَابَتْ مَوَالِيدُكُمْ ** فَاغْتَنِمُوهَا يَا بَنِي الْفِطْرِ

وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، وَأَرْبَابُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَبِدْعَةً فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ، لَازِمٌ. وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الْبُؤَسَاءُ مِنْ عَالِمِ الدِّينِ، وَعَلَمِ الْإِسْلَامِ، مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ قَالَ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}.
وَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ؛ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ مَا فَسَحَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهِ، فَأَلْزَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ حُكْمَهُ وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ.
وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثٌ لَازِمَةٌ فِي كَلِمَةٍ، فَهَذَا فِي مَعْنَاهَا، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْمِلَّةِ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْمَذْكُورِ، قُلْنَا: هَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؟ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ إِلَّا عَنْ قَوْمٍ انْحَطُّوا عَنْ رُتْبَةِ التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ الْعَصْرَانِ الْكَرِيمَانِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الثَّلَاثِ، فَإِنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَقْبَلُونَ مِنْكُمْ: نَقْلُ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ. وَلَا تَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَنْسُوبَةً إِلَى أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَبَدًا.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدٌ وَمَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ إِلَّا وَاحِدٌ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَسَكَتُوا عَنْهُ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا طَاوُسًا؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَالْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ كَمَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ إِمَامٌ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ. وَانْفِرَادُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ وَلَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَصْلًا إِلَّا وَاحِدٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ]:
فِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا ** وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبَا

يَعْنِي: أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَا حَدِيثَ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ النَّمَرِيِّ، وَيُقَالُ الْعَبْدِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ هَذَا مُرَادُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهُ إِلَّا بِأَمْرٍ وَاضِحٍ، نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا كَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً إِلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَنَحْوُهُ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّقْلَ تَوَاتُرًا وَالِاشْتِهَارَ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ، أَشَارَ إِلَيْهَا فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ: [الرَّجَزُ]:
وَخَبَرُ الْآحَادِ فِي السُّنِّيِّ

حَيْثُ دَوَاعِي نَقْلِهِ تَوَاتُرًا ** نَرَى لَهَا لَوْ قَالَهُ تَقَرُّرَا

وَجَزَمَ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ. وَالْمَنْقُولُ آحَادًا فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَمُرَادُهُ أَنَّ مِمَّا يُجْزَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ مَسْأَلَةٌ: إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ، وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةٍ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاقَشَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ عَنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ غَيَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَوْ جُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. فَالدَّوَاعِي إِلَى نَقْلٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِ، مُتَوَفِّرَةٌ تَوَفُّرًا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، لِأَنْ يَرُدَّ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ الَّذِي أَحْدَثَهُ عُمَرُ فَسُكُوتُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهُ حَرْفٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ سُرَيْجٍ. وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ عُمَرَ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِ قَصْدِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى التَّأْكِيدَ فَوَاحِدَةٌ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَثَلَاثٌ. وَاخْتِلَافُ مَحَامِلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نِيَّاتِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِصِحَّتِهِ لِنَقْلِهِ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَخَفُّ مِنَ الثَّانِي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ: وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَفْشُوَ الْحُكْمُ وَيَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ، إِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِهِ. اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنْهُ، وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ كَمَا تَرَى.
الْجَوَابُ السَّادِسُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هُوَ حَمْلُ لَفْظِ الثَّلَاثِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَتَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مَا نَصُّهُ: وَهُوَ قَوِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ، الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلَاثِ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْبَتَّةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً فَيُقْبَلُ، فَكَأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ؛ لِاشْتِهَارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، فَرَوَاهَا بِلَفْظِ الثَّلَاثِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَفْظَةُ الْبَتَّةَ، وَكَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قَالَ أَرَدْتُ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً، فَلَمَّا كَانَ عَهْدُ عُمَرَ أَمْضَى الثَّلَاثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ. اهـ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي بِلَفْظِهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَا يَذْكُرُهُ كُلٌّ مِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا مِنَ الْأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ لِيُصَحِّحَ بِهِ كُلٌّ مَذْهَبَهُ، لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سُقُوطُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَقِيَاسُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي أَنَّهُ لَوْ حَلَفَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ، قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ؛ لَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا، بِخِلَافِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا اعْتُبِرَتْ إِجْمَاعًا، وَحَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِجْمَاعًا.
الْجَوَابُ السَّابِعُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَهُ، وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ، لَا فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ جَمَاهِيرَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مَا أَسْنَدَهُ الصَّحَابِيُّ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ.
الْجَوَابُ الثَّامِنُ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَانَتْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَلَوْ قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُصَادِفْ لَفْظُ الثَّلَاثِ مَحِلًّا؛ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَهَا. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ جَاءَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ هُوَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: [الرَّجَزُ]:
وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبَ ** إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبُ

وَمَا ذَكَرَهُ الْأَبِّيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ، أَمَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ فَمِنْ زِيَادَةِ الْعَدْلِ فَمَرْدُودٌ؛ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَاتِ الْعَامَّةِ، وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ، لَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، لَا مِنْ مَسَائِلِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، فَالرِّوَايَاتُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا تَرَى، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا. نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ وَارِدٌ عَلَى سُؤَالِ أَبِي الصَّهْبَاءِ، وَأَبُو الصَّهْبَاءِ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، كَوْنَ الْكَلَامِ وَارِدًا جَوَابًا لِسُؤَالٍ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ السُّؤَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ عَنِ الْمَنْطُوقِ. وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذِكْرِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ:
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ ** لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ أَيُّوبُ مَجْهُولُونَ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ، لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي لِأَبِي دَاوُدَ فَضَعِيفَةٌ، رَوَاهَا أَيُّوبُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مَا نَصُّهُ: الرُّوَاةُ عَنْ طَاوُسٍ مَجَاهِيلُ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، وَضَعْفُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى لِلْجَهْلِ بِمَنْ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ لَفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَهُوَ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فَانْظُرْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَشْتَهِرِ الْعِلْمُ بِنَسْخِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُشْبِهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ فَنُسِخَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خِلَافٌ.
قَالَ الشَّيْخُ: رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خِلَافُ مَا قَالَ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِفَمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَعْلِهَا وَاحِدَةً، فَالَّذِي يُشْبِهُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الظَّاهِرَ لَنَا دَوَرَانُ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ لُغَةً فِي مَعْنَى طَلَاقِ الثَّلَاثِ دُخُولًا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ الَّتِي جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ إِسْنَادَهَا أَصَحُّ إِسْنَادًا، فَإِنَّ لَفْظَهَا: أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى! كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَايِعُوا فِيهَا قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا مُتَفَرِّقَةً بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَدِّهِ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ. فَقَدْ قَالَ فِي زَادِ الْمَعَادَ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لَا، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» فَهَذَا مِمَّا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي. وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَقَالَ ثَلَاثًا، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا، وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى قَالَ مَا نَصُّهُ: وَذَهَبَ أَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قَالَ لِلْبِكْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. كَانَتْ وَاحِدَةً فَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا، قَالَ الشَّيْخُ: وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ الْمُطَابِقُ لَفْظُهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الطَّلَقَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِفَمٍ وَاحِدٍ، بَلْ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، مُبَيِّنٌ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي تَكُونُ وَاحِدَةً هِيَ الْمَسْرُودَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِلصِّيغَةِ الْأُولَى.
فَفِي السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّيْخُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تَتْرَى، رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، قَالَ عُقْدَةٌ كَانَتْ بِيَدِهِ أَرْسَلَهَا جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَتْ تَتْرَى فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تَتْرَى يَعْنِي أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَإِنَّهَا تَبِينُ بِالْأَوْلَى، وَالثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِشَيْءٍ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَسْرُودَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ الَّتِي صَحَّحَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَوْضَحْنَاهُ آنِفًا مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ كَوْنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، لَا مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلَا مِنَ الْعُرْفِ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمُجَرَّدُ لَفْظِ الثَّلَاثِ، أَوْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ، أَوِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِصِدْقِ كُلِّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ عَلَى الثَّلَاثِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا رَأَيْتَ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَلَا بَيْنَ زَمَنٍ وَزَمَنٍ، وَإِنَّمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ نَوَى التَّأْكِيدَ، وَمَنْ نَوَى التَّأْسِيسَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَنَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عَلِمَ مِنْ كَثْرَةِ قَصْدِ التَّأْسِيسِ فِي زَمَنِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ قَصْدُ التَّأْكِيدِ هُوَ الْأَغْلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَتَغْيِيرُ مَعْنَى اللَّفْظِ لِتَغَيُّرِ قَصْدِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَقُوَّةُ هَذَا الْوَجْهِ وَاتِّجَاهُهُ وَجَرَيَانُهُ عَلَى اللُّغَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْكَالٍ فِيهِ كَمَا تَرَى. وَبِالْجُمْلَةِ بِلَفْظِ رِوَايَةِ أَيُّوبَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ مُطَابِقٍ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا الثَّانِي كَمَا ذَاقَهَا الْأَوَّلُ. وَبِهِ تُعْرَفُ أَنَّ جَعْلَ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، وَجَعْلَهَا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَفْرِيقٌ لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ اتِّحَادِ لَفْظِ الْمَتْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَمَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى وَاحِدَةٍ لَا يَجِدُونَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَيْنَ رِوَايَةِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ.
وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ إِلَى وَاحِدَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُهَا وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ أَصْلًا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي خُصُوصِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. أَمَّا جَعْلُكُمُ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُفَرَّقَةً، وَفِي حَدِيثِ طَاوُسٍ مُجْتَمِعَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُطَابِقٌ لَفْظُهُ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ مَعَانِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً لَا مُتَفَرِّقَةً.
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، هِيَ الْمَجْمُوعَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ رَأَيْتَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، أَنَّهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ، وَلَوْ مُتَفَرِّقَةً؛ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةِ تَطْلِيقَةٍ، مُتَفَرِّقَةً كَانَتْ أَوْ لَا. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ اشْتُهِرَ النَّسْخُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَادِّعَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ يَرُدُّهُ بِإِيضَاحٍ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَفِي بَعْضٍ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ قَالَ: فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَادِّعَاءُ إِمْكَانِ إِحْدَاهُمَا وَاسْتِحَالَةِ الْأُخْرَى فِي غَايَةِ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ، أَنَّ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، ثُمَّ غَيَّرَ حُكْمَهَا عُمَرُ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَخَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءُوا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ عَمْدًا غَيْرُ لَائِقٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُدَّعِي لِهَذَا الْإِجْمَاعِ هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَائِلِ: بِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعْلَ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعَةً عُقُوبَةً لَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَالظَّاهِرُ عَدَمُ نُهُوضِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ فَرْجًا أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبِيحُ ذَلِكَ الْفَرْجَ بِجَوَازِ الرَّجْعَةِ، وَيَتَجَرَّأُ هُوَ عَلَى مَنْعِهِ بِالْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الْآيَةَ [95/ 7]، وَيَقُولُ: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [01/ 95]، وَيَقُولُ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [24/ 12].
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الطَّلَاقِ هُوَ التَّعْزِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ، كَالضَّرْبِ. أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ مِنَ الْفُرُوجِ فَلَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُرْمَتِهِ عَلَى مَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ حَرَّمُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُكْرِهَ عَلَى إِبَانَتِهَا وَهِيَ غَيْرُ بَائِنٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُبِنْهَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ وَفَتْوَاهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَإِنَّ فِيهِ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وَيُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [33]؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهَا اخْتِيَارًا لِقَضَائِهِ وَطَرَهُ مِنْهَا مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا نَصُّهُ: وَفِي الْجُمْلَةِ فَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ، أَعْنِيَ قَوْلَ جَابِرٍ، إِنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قَالَ: ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا، فَالرَّاجِحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَهْدِ عُمَرَ خَالَفَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ وَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ لِجَمِيعِهِمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَالْمُخَالِفُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنَّا بِذِلَّةٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَنْ أَحْدَثَ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَحَاصِلُ خُلَاصَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبَحْثَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ: الْأُولَى: مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ الْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ الصَّرِيحِ.
الثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأُصُولِ.
الثَّالِثَةُ: مِنْ جِهَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، أَمَّا أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَجُلَّ الصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى نُفُوذِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَادَّعَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، وَقَدْ مَرَّ لَكَ أَنْ أَثْبَتَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ طَلَاقِ رُكَانَةَ أَنَّهُ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ حَلَّفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: «لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً».
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، وَشُعَيْبَ بْنَ زُرَيْقٍ الشَّامِيَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عَطَاءً الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ شُعَيْبًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا يُعْتَضَدُ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصِيتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ.
وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ وَيُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ؛ لِتَحْلِيفِهِ رُكَانَةَ وَبِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَبِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ، وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةَ فَأَنْفَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ وَبِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافَ مَنَازِعِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا وَأَنْ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا فَيَصْلُحُ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ. وَلَا سِيَّمَا أَنْ بَعْضَهَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ، كَحَدِيثِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ حَدِيثَ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، فَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ الْمُرْوَيَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ يَدُلُّ إِلَّا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً، فَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ آيَةُ ذِكْرِ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَأَحْرَى آيَةٍ تُصَرِّحُ بِعَدَمِ لُزُومِهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [65/ 1]، قَالُوا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ؛ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ إِلَّا رَجْعِيًّا، فَلَا يَنْدَمُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهَا تَلْزَمُ مُجْتَمِعَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا، فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأُصُولِ، فَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كَانَ يُفْعَلُ كَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَوْجُهَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِإِيضَاحٍ. وَرَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ «لِثَلَاثٍ»، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةٌ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةٌ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحُّ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَا دَلِيلَ إِذَنْ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ تَارَةً تَقُولُونَ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخٌ، وَتَارَةً تَقُولُونَ: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِنَا: أَنَّ الطَّلَقَاتِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَجَعْلُهَا وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعَلَمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الطَّلَاقِ حِكْمَةَ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ حَقْلٌ تُزْرَعُ فِيهِ النُّطْفَةُ كَمَا يُزْرَعُ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلزِّرَاعَةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِيهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ وَشَأْنُهُ؛ لِيَخْتَارَ حَقْلًا صَالِحًا لِزِرَاعَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [2/ 223]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فَإِنْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى زَوْجَتَهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُلْعِ، إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا إِذَنْ فِي الْخُلْعِ. أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا هِيَ فِي الدَّفْعِ، وَلَا عَلَيْهِ هُوَ فِي الْأَخْذِ.
وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالنَّهْيِ عَنِ الرُّجُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى الْأَزْوَاجُ زَوْجَاتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْطَى قِنْطَارًا وَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهُ بُهْتَانٌ وَإِثْمٌ مُبِينٌ، وَبَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ أَفْضَى إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [4/ 20، 21].
وَبَيِّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [4/ 4]. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [4/ 24].
تَنْبِيهٌ:
أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَا يُعَدُّ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/ 229]؛ لَمْ يَعْتَبِرْهُ طَلَاقًا ثَالِثًا ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الْآيَةَ [2/ 230].
وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي؛ لِمَا تَقَدَّمَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَهُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ يَعْتَضِدُ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ: «إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا فَيُحْسِنَ صُحْبَتَهَا، أَوْ يُسَرِّحَهَا فَلَا يَظْلِمَهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا».
وَعَلَيْهِ فَفِرَاقُ الْخُلْعِ الْمَذْكُورُ لَمْ يُرَدْ مِنْهُ إِلَّا بَيَانُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُلْعِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} إِنَّمَا كَرَّرَهُ؛ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ. وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [2/ 229]، يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الرَّجْعَةِ، وَأَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} الْآيَةَ [2/ 230]، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ عَدِّ الْخُلْعُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ فِي مَعْرِضِ مَنْعِ الرُّجُوعِ فِيمَا يُعْطَاهُ الْأَزْوَاجُ. فَاسْتَثْنَى مِنْهُ صُورَةً جَائِزَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا طَلَاقًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْخُلْعَ يُعَدُّ طَلَاقًا بَائِنًا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ الْبَتِّيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَتَى نَوَى الْمُخَالِعُ بِخُلْعِهِ تَطْلِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْخُلْعِ وَهُوَ: أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَعُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَهْمَانَ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَأَتَيَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَطْلِيقَةٌ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْتَ شَيْئًا فَهُوَ مَا سَمَّيْتَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَعْرِفُ جَهْمَانَ، وَكَذَا ضَعَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْأَثَرَ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَتُكَلِّمُ فِيهِ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَأَنَّهُ سَيْئُ الْحِفْظِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرَوْعٌ:
الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الصَّدَاقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/ 229]، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِّمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صَلَاتُهَا كَمَا عَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ: [الرَّجَزُ]:
صِيَغُهُ كُلُّ أَوِ الْجَمِيعُ ** وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعُ

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرْنَا أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ: أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتِ كَثِيرِ الزِّبْلِ، ثُمَّ دَعَاهَا فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ؟ فَقَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كُنْتَ حَبَسْتَنِي. فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمِرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَشَكَتْ زَوْجَهَا فَأَبَاتَهَا فِي بَيْتِ الزِّبْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ قَالَ لَهَا: كَيْفَ وَجَدَتْ مَكَانَكَ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ عِنْدَهُ لَيْلَةً أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: خُذْ وَلَوْ عِقَاصَهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: كَانَ لِي زَوْجٌ يَقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَنِي، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ، قَالَتْ: فَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْتَلِعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَعَلَتْ، قَالَتْ: فَخَاصَمَ عَمِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَ الْخُلْعَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِي، فَمَا دُونَهُ، أَوْ قَالَتْ مَا دُونُ عِقَاصِ الرَّأْسِ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا كُلُّ مَا بِيَدِهَا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلَا يَتْرُكُ لَهَا سِوَى عِقَاصِ شِعْرِهَا، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَالْحُسْنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ قِبَلِهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا، وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَإِنِ ازْدَادَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ أَخَذَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ وَالْحَكَمُ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْقُضَاةُ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَ إِلَيْهَا، قُلْتُ: وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْحَدِيقَةَ وَلَا يَزْدَادَ، وَبِمَا رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، يَعْنِي: الْمُخْتَلِعَةَ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، أَيْ: مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/ 229]، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْهُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/ 229]. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُرْوَةُ، وَسَالِمٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو عِيَاضٍ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَتَادَةُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الْعُبَيْدِ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَأْخَذُهُمْ فِي هَذَا: أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ فَتُعْتَدُّ كَسَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَكَوْنُ الْخُلْعِ طَلَاقًا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لِلزَّوْجِ مِنْ جِهَتِهَا إِنَّمَا بَذَلَتْهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهَا فِرَاقًا شَرْعًا إِلَّا بِالطَّلَاقِ، فَالْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ مُخَالَعَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ زَوْجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ مَبْذُولٌ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَا يُسْقِطُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَزْهَرَ بْنَ جَمِيلٍ لَا يُتَابِعُهُ غَيْرُهُ فِي ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ: خُصُوصُ طَرِيقِ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ خَالِدٍ، وَهُوَ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، ثُمَّ بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مُرْسَلًا، وَعَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا. وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةُ، وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، فَظَهَرَ اعْتِضَادُ الطُّرُقِ الْمُرْسَلَةِ بَعْضِهَا بِبِضْعٍ، وَبِالطُّرُقِ الْمَوْصُولَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ؛ بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِذِكْرِ التَّطْلِيقَةِ، وَالرِّوَايَاتُ بَعْضُهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَسْخًا فَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ بِإِيجَابِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَهُوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَيَقُولُ فِي أَشْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا: إِنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَالْمُطَلَّقَةِ، فَظَهَرَ عَدَمُ الْمُلَازَمَةِ عِنْدَهُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ طَلَاقًا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُرَادَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً»: أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ قِبَلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عِوَضُ الْمَالِ إِذْ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنَ الْفِرَاقِ غَيْرَ الطَّلَاقِ. فَالْعِوَضُ مَدْفُوعٌ لَهُ عَمَّا يَمْلِكُهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ دَلَالَةً وَاضِحَةً.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَعْتَدُّ الْمُخْتَلِعَةُ بِحَيْضَةٍ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، وَعَمِّهَا، وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَالطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ أَسَانِيدِهِ أَقَلُّ دَرَجَاتِهَا الْقَبُولُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ فَلَا كَلَامَ. وَلَوْ خَالَفَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ كَوْنِهِ فَسْخًا، وَبَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، وَمَا وَجَّهَهُ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيُطَوِّلَ زَمَنَ الرَّجْعَةِ وَيَتَرَوَّى الزَّوْجُ وَيَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّجْعَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَالْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ. وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ كَالِاسْتِبْرَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ جَعْلِ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي تَطْوِيلِ زَمَنِ الرَّجْعَةِ، بَلِ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهَا: الِاحْتِيَاطُ لِمَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بِتَكَرُّرِ الْحَيْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى حَمْلٍ مِنْهُ. وَدَلَالَةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ عَلَى ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَةِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهَا إِجْمَاعًا.
فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مَا ذُكِرَ لَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَيْضَةً وَاحِدَةً، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ بَابَ الطَّلَاقِ جُعِلَ حُكْمُهُ وَاحِدًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ وَاحِدًا إِلَّا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ وَاحِدَةٌ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ لَهُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ إِجْمَاعًا، بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [33/ 49]، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَنْدَمُ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا يَنْدَمُ الْمُطَلِّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ مُجَرَّدَ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الرَّجْعَةِ، لَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْكُبْرَى فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ هِيَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ؛ صِيَانَةً لِلْأَنْسَابِ، كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَعْلَقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى تَطْلُبَ بَرَاءَتَهَا مِنْهُ بِالْعِدَّةِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ اعْتِدَادِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةٍ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالطَّبَرَانِيُّ فَهُوَ تَفْرِيقٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ الْفِرَاقِ الْمَبْذُولِ فِيهِ عِوَضٌ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي قَدْرِ الْعِدَّةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ. كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَوْجَبَ فِيهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ. وَبَيْنَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ عِدَّةً أَصْلًا، مَعَ أَنَّ الْكُلَّ فِرَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَاقِ بَعِوَضٍ، وَالْفِرَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ظَاهِرٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا رَجْعَةَ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الثَّانِي.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَالَعَةِ هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ مِنْ خَالِعِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ، وَبِهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعِكْرِمَةَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ أَتْبَعَ الْخُلْعَ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَقَعَ، وَإِنْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقَعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ، وَطَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ عَنْهُمَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ بِحَسْبِ النَّظَرِ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَعَةَ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ صِيغَةِ الْخُلْعِ تَبِينُ مِنْهُ، وَالْبَائِنُ أَجْنَبِيَّةٌ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ لِأَحَدٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَيْسَ لِلْمُخَالِعِ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُخْتَلِعَةَ فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِمَا بَذَلَتْ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَمَاهَانَ الْحَنَفِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ رَدَّ إِلَيْهَا الَّذِي أَعْطَتْهُ جَازَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَهُوَ فُرْقَةٌ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ سَمَّى طَلَاقًا فَهُوَ أَمْلَكُ لَرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَبِهِ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُخْتَلِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا تَزْوِيجَهَا لِمَنْ خَالَعَهَا، كَمَا يَمْنَعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ. كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.